أطلق الرئيس جو بايدن صفّارة الإنذار، رفع البطاقة الصفراء في وجه “إسرائيل”، لكنّه لم يكن حكماً نزيهاً عادلاً، كونه ترك آلة الموت تزرع المزيد من أطفال غزّة، شقائق نعمان، عند الشاطئ المزنّر بالحديد والنار. قال إن “إسرائيل” بدأت تفقد ثقة العالم. لقد أخطأ، أو راوغ. الأصح، أنها ليست وحدها من يفقد الثقة في العالم، بل الولايات المتحدة في الطليعة.

يشعر هذا الرئيس الذي تخطّى عتبة الثمانين، أنه الوحيد الذي وقف في مجلس الأمن الدولي، وواجه 14 عضواً، واستخدم حق النقض “الفيتو”، ومنع صدور قرار يدعو إلى وقف فوريّ لإطلاق النار في غزّة. والوحيد الذي وقف في قاعة الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، وإلى جانبه دول تسع، ليتحدّى إرادة 153 دولة، طالبت بوقف فوريّ إنسانيّ لإطلاق النار، والحدّ من حرب الإبادة.

العدد هنا مهم. 153 من أصل 193 دولة دعت إلى يقظة ضمير، إلى لفتة إنسانيّة، إلى إنقاذ ما تبقى من قيم مدفونة تحت أنقاض غزّة. هذا امتحان أخلاقي وإنساني، قبل أيّ شيء آخر، وقد سقط في الإمتحان “سيادة الرئيس”، كونه انحاز إلى سياسة القتل، واستمرار مجزرة الأطفال.

والعدد هنا، يؤشّر إلى عوارض شيخوخة مبكّرة للولايات المتحدة، كقطب واحد، يتحكّم بسياسة العالم، مقابل ظواهر تشير إلى تعدد الأقطاب في غرفة القيادة، التي ستتحكم بالمسارات الدوليّة.
والخلاصة: ليست “إسرائيل” وحدها من يفقد ثقة العالم، بل الولايات المتحدة أولاً.

ويستمر الشطط في التوصيف، والتقييم عندما يطالب الرئيس بايدن صديقه اللدود بنيامين نتنياهو بتغيير حكومي، وإبعاد المتطرفين، وقد نسي أو تناسى فخامته بأنه كان الأول من بين زعماء العالم الذي هرول إلى تل أبيب، بُعيد “طوفان الأقصى”، واجتمع إلى “حكومة المتطرفين”، وربّت على كتف نتنياهو مهنئاً ومشجعاً على ارتكاب المجازر…

يستفيق هذا الثمانيني على قلق يراوده. إنه يخوض الشوط الأخير من الولاية بهمّة باردة تفتقر إلى حرارة القيادة، وشيخوخة مثقلة بالهموم والمتاعب. إبنه هانتر يضايقه، يتعاطى المخدرات، يتهرّب من دفع الضرائب، يبذخ في الإنفاق على شراء السلع النادرة، ويحيط نفسه بالمرافقين. كان فخامته يغادر البيت الأبيض، متوجهاً في رحلة إلى نيفادا وكاليفورنيا، عندما سئل إن كان يعتقد أن نجله هانتر بريء حيال التهم الجديدة التي وجّهت اليه بالتهرّب من دفع الضرائب، فاكتفى بالتلويح بيده للمراسلين، متجاهلاً الإجابة.

لا يستطيع تجاهل التحديات الداخليّة الأخرى الضاغطة. إنتشار السلاح لم يعد حكراً على البالغين، بل أصبح بمتناول طلاب المدارس، وفي كل يوم مجزرة، ومع طالع كل شمس جريمة. التمييز العنصري يستفيق من سباته، ويرتفع منسوبه، ويتوسّع مدّه. السلّة الغذائيّة لم تعد في مأمن، الغلاء ينهشها، وارتفاع الضرائب يقتّرها. موجات الوافدين الطارئين، إلى تزايد، لم تحسرها الروادع القانونيّة. والمعارك المتناسلة ما بين إدارته والكونغرس حول الملفات الحيويّة، لا تنتهي… إنها سنة الإنتخابات…

يقف عند عتبة الـ2024. يواجه السباق نحو البيت الأبيض بأحصنة منهكة. خرج على أجنحة الذل من أفغانستان، ليغرق في المستنقع الأوكراني، لقد استدرجه الرئيس الروسي إلى وليمة مسمومة، لا هو قادر على الإنسحاب، ولا هو قادر على الإستمرار، وكل يوم يمر ترتفع الكلفة، وتقفز الأرقام، ليقع في مصيدة الكونغرس الذي يدقّق بسلال المليارات التي أنفقت لتمكين الرئيس الأوكراني من الوقوف في وجه العاصفة.

قد لا يكون المسؤول الوحيد عن تاريخ ملطخ. إنها مسيرة طويلة مع حقوق الإنسان، ودعاة حقوق الإنسان، مروية بالدماء والدموع، ومزروعة بأكوام الجثث والجماجم، من فيتنام إلى افغانستان، إلى العراق، إلى غزّة. قهر لا ينتهي، وجرح لا يندمل، ووجع لا يستكين، وأنهار لا تنضب من الدماء، وكل ذلك “تحت شعار” نشر الديمقراطيّة، وإحترام حقوق الإنسان!

آن أوان الحساب. إقترب الموعد الذي تعود فيه شمس الحقيقة من سفرها لتكشح الظلمة، والظلام، والمظلومين. لقد فعلها الرئيس بايدن في مجلس الأمن، ثم في الجمعيّة العامة للأمم المتحدة، وخرج على الملأ ليتهم حامل نباله الملوّثة بأنه يدمّر ثقة العالم.

ما يقلقه فعلاً، وهو في الشوط الأخير من الولاية، وعلى أبواب سنة الإنتخابات، ليست المجازر في غزّة، وقد صوّت لأجل إستمرارها، بل ماذا جاء يفعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أبو ظبي، والرياض؟ وماذا ذهب يفعل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في موسكو في هذا التوقيت الحسّاس؟!

ما يقلقه أن “حماس” ستكون مكوناً فاعلاً ومؤثراً في أي سلطة فلسطينيّة جديدة. ما يقلقه أن إيران ستكون قبالته حول أي طاولة مفاوضات تعقد للتفاهم حول تسوية متوازنة قابلة للحياة.

ما يقلقه أنه لا يستطيع وحده أن يصنع الشرق الأوسط الجديد بما يراعي خواطر نتنياهو ويمينه المتطرف.

يعرف هذا الرئيس، وهو يخوض الشوط الأخير من الولاية، بأن على رقعة الشرق الأوسط الجديد، يقف الروسي، والتركي، والإيراني، والصيني، وفي الخط الموازي 57 دولة عربيّة وإسلاميّة وقفت في الرياض في 11 تشرين الثاني الماضي لتقول رأيها في “اليوم التالي” لغزّة، للقضيّة الفلسطينيّة، وللشرق الأوسط الجديد…

المصدر : جورج علم- الجريدة