لا يريدان الحرب.. فماذا يريدان من الحرب؟

كتب جورج علم في الجريدة

يعتمد الأميركي الخطة (ب). دائما عنده الخيار الثاني. يوفّر فرص النجاح للخيار الأول، لكنه لا يهمل الثاني في ما لو صحّ منه العزم، والدهر أبى!

ضرب في سوريا والعراق ردّاً على مقتل ثلاثة من جنوده في الأردن، وقدّمت وزارة الدفاع الأميركيّة تقييماً مزدوجاً، أكّدت في جانب منه على أن الغارة كانت ناجحة. إنها رسالة إلى طهران مفادها أن النار بلغت العتبات، ويمكن أن تدخل، إن لم يتوقف التفلّت، وتسوَّ الأمور. فيما ركّز الجانب الثاني على الحوار الممكن، مؤكداً أن أبوابه لم تقفل، ولا رغبة في نسف الجسور، والدليل أن واشنطن أبلغت من يعنيهم الأمر بالضربة قبل حصولها، من منطلق الحرص على محدوديّة الخسائر، وأيضاً على استمراريّة قنوات الاتصال.

والملفت أن واسائل الإعلام الأميركيّة قد تحدّثت مطوّلاً عن مواصفات قاذفة القنابل “بي 1″، وعن الصواريخ الذكيّة التي استخدمت، وكأن ما جرى كان مجرّد اختبار عملاني لهذه الأسلحة المتطوّرة، ولم تتحدث عن مواجهة حاسمة. وإذا كان الأميركي لا يريد الحرب، وكذلك الإيراني، فماذا يريدان؟ وما هذا الذي يجري على جبهات القتال، من غزّة، إلى الضفّة الغربيّة، إلى جنوب لبنان، وسوريا، والعراق، وصولاً إلى اليمن؟ وإذا كانت كلّ هذه الأكوام من الضحايا والخراب والدمار، لا تعني حرباً، فماذا تعني؟ إنها “بالشفهي” حرب بالوكالة. أمّا “بالخطّي” فهي مجرّد تنافس محموم على تقاسم خيرات المنطقة، وخرائط النفوذ، ودائماً على قاعدة المصالح الكبرى للكبار، وما تبقى، يبقى “تناتشا” منضبطا بين الصغار، حول ما يتبقّى لهم من فتات!

وتشير البوصلة الدبلوماسيّة إلى أن البوارج المدججة ما اجتازت بعد ما تبقى من أنواء عاتية، في بحار المنطقة، ولكنها في الإتجاه الصحيح نحو المراسي الهادئة، وأن الحروب الهادرة على الجبهات المفتوحة لم تستكن، لكنّها بدأت تلفظ أنفاسها، وأن العيون شاخصة نحو ما يجري في العديد من العواصم من “قصص وخبريات” حول ما يحيكه النول الأميركي، ومواصفات السجادة الإيرانيّة، والمشاركون في صباغة الألوان، المنتظرون جوائز الترضية.

ولم تعد العناوين المتداولة، على أهميتها، هي من يفضح الأهداف الكبرى التي لا تزال مستترة وراء غبار المعارك. المرحلة مفصليّة، والكل يقف عند مفترق الخيارات، والبحث الشاق يدور حول كيفيّة التوصل إلى خلاصات نهائيّة تفرض على الجميع، كونها تشكّل الضمانة الممكنة، والمصلحة المقبولة للجميع.

هناك جبهتان دبلوماسيتان تتنافسان: الجبهة العربيّة ـ الإسرائيليّة، والجبهة الأميركيّة ـ الإيرانيّة، وفي النهاية تتكاملان وتصبّان في مجرى المصالح في الشرق الأوسط، مع تحديد الحصص، والكوتات، ونصيب كل طرف منها.

من معادلات الجبهة الأولى: “أن يقبل العرب بإسرائيل، بعد أن تقبل بقيام دولة فلسطينية”. وبكلام أقل فجاجة، أن تقبل إسرائيل بـ”دولة فلسطينيّة”، مقابل تطبيع كامل مع الدول العربيّة، ومن باب أولى مع المملكة العربيّة السعودية، وهذه ورشة أميركيّة ـ بريطانيّة ـ أوروبيّة ـ أممية قائمة على قدم وساق للتفاهم على خريطة الطريق القابلة للتنفيذ.

أما الجبهة الثانيّة، من معادلاتها، إقرار أميركي برفع العقوبات عن إيران، والتفاهم على سقوف محددة للمفاعلات النووية، وتخصيب اليورانيوم، والبرنامج الصاروخي، وقطاع المسيّرات، والروزنامة النفطيّة، والدور في الإقليم، مقابل احترام المصالح الأميركيّة، وتحديداً في الخليج، وتفكيك حجارة القنطرة التي تحمي المحاولات الرامية إلى قيام تحالف إيراني ـ صينيّ ـ روسي مواجه للنفوذ الأميركي واستراتيجيته المستندة إلى تاريخ في المنطقة، وإلى تفاهمات واتفاقيات عميقة.

ولا يمكن التقليل بما يجري بين واشنطن، ولندن، وباريس، وبروكسل، والقاهرة، والرياض، والدوحة، ومسقط، وعواصم أخرى، من اجتماعات، وطروحات، حول اليوم التالي في غزّة، وكيف يجب أن يكون، وأيّ دور لـ”حماس” حاضراً ومستقبلاً، وأي سلطة فلسطينيّة، وأيّ إعادة إعمار، ووفق أيّ خرائط، ومواصفات، وتوازنات أمنيّة وسياسيّة واقتصاديّة؟ وماذا عن اليوم التالي في الجنوب، وهل سيكون مدخلاً لفكفكة ما تبقى من الهيكل العظمي للدولة والمؤسسات، أو لتسوية كبرى تقوم على تحقيق الإصلاحات السياسيّة، والماليّة، والإداريّة، والاقتصاديّة، التي ينادي بها صندوق النقد الدولي، وعواصم الدول الحريصة على مصالحها في هذا الممر الاستراتيجي ما بين الغرب والشرق؟

ولا حاجة للحديث عن اليوم التالي في البحر الأحمر ومنصّات الصواريخ في اليمن، ولا عن العراق، وسوريا.

إن ما يجري هو تجميع للمواد الأوليّة لبناء القاعدة الصلدة لهرم التسوية الكبرى في المنطقة، وإن إدارة الرئيس جو بايدن باتت ملزمة بالاعتماد على خطة (ب)، طالما أنها لا تريد الحرب، ولا الانغماس المباشر والمكلف في وحول الشرق الأوسط. إنها معنيّة ببناء هذه القاعدة إذا كانت تطمح فعلاً لولاية ثانية في البيت الأبيض. أما القول بأنها لا تريد الحرب، فهذا الكلام لا يسعد إسرائيل، ولا يطرب العرب، ولا يطمئن عرب الخليج، خصوصاً أن الخلاف لا يزال محتدما حول مساحات النفوذ، بين قائل بأنه “الخليج العربي” بدمغة تاريخيّة موثّقة.. إلى قائل بـ”الخليج الفارسي”.. والآن الإيراني!

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top